باتت منصات التواصل الاجتماعي عالميًا وإقليميًا ومحليًا هي الوسائل الأكثر استخدامًا من قبل الأفراد بمختلف فئاتهم العمرية وأجناسهم، وقد أكدت الإحصائيات الأخيرة التي أوردها موقع we are social”” https://wearesocial.com/digital-2020 أن عدد مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي عالميًا وصل إلى (3.80) مليار مستخدم نشط، فيما وصل عدد مستخدمي الهواتف النقالة إلى (5.19) مليار مستخدم، وبالنسبة للدول فقد وصل عدد المستخدمين النشطين لمنصات التواصل الاجتماعي في اليمن إلى (2.50) مليون مستخدم نشط، بينما عدد المستخدمين من الأفراد المستخدمين والمتصلين بالهاتف النقال إلى (17.82) مليون مستخدم.
وبيّنت خريطة التقرير الخاصة بالتطبيقات الأكثر استخدامًا في دول العالم أن تطبيق “واتساب” للتراسل هو التطبيق الأكثر استخدامًا في اليمن.
ولو نظرنا إلى حضرموت وهي ضمن إحصائية اليمن فهذا يعني أن تطبيق “واتساب” هو الأكثر استخدامًا كبقية المحافظات، يليه موقع “فيسبوك”، ويشكوا المجتمع في حضرموت حاليًا من تزايد انتشار الإشاعات والأخبار الكاذبة “Fake news” عبر هذه المنصات الاجتماعية، وهنا يتشكل لدينا سؤال هام مفاده: ما الذي يدفع “فرد ما” إلى المسارعة بثقة لنشر معلومات وصور وفيديوهات وأخبار عبر “النسخ لصق” دون التحقق منها أو التريث وكأنه دون وعي؟!
“غرف الصدى Echo chambers” وتعزيز المشكلة:
المشكلة الأساسية في الإجابة عن السؤال من وجهة نظري تكمن في “غرف الصدى” أو “Echo chambers” الالكترونية وخاصة المتعلقة بمنصات التواصل الاجتماعي. وهي أن مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في بعض الحالات، يمكن أن يجتمعوا فيما يشبه غرفة الصدى، أي أنهم يتفاعلون فقط مع المحتوى الذي يؤكد المعتقدات التي يؤمنون بها. (Linda Schlegel, 2019).
بمعنى أن “غرف الصدى Echo chambers” هذه كأن تكون مجموعات “قروبات” على تطبيق “واتساب” أو موقع “فيسبوك” أو غيرها تضم أفرادًا “أعضاء” لهم توجّه فكري وأيديولوجيا واحدة، ولهم ذات التفكير السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي نفسه، ولذلك تم وصفها بـ “الصدى” نظرًا لأن الشخص حينما يدلي برأيه في هذه المجموعة يجد الجميع يؤيده ويعطونه نفس الرأي، وكأن صدى صوته يرتد إليه دون تغير أو اختلاف.
مزيج الرأي السياسي في حضرموت:
وقبل أن نسرد دور “غرف الصدى” أو “Echo chambers” وتأثيرها على الأفراد في حضرموت وتعزيز الثقة لديهم لاعتماد “النسخ، اللصق” دون التريث، خاصة وأن هذا الجانب له علاقة بالانتماء السياسي بشكل كبير وازدهاره في هكذا مناخ، لا بد لنا أولًا من معرفة التركيبة السياسية للمجتمع هناك ولو بشكل مختصر، فالمجتمع في حضرموت هو مزيج من التوجهات والأيديولوجيات المختلفة، تتضمن أحزابًا سياسية مثال المؤتمر والإصلاح والاشتراكي والناصري وغيرها من الأحزاب، وتيارات سياسية تطالب باستعادة دولة الجنوب مثال المجلس الانتقالي الجنوبي، والحراك الثوري لتحرير واستقلال الجنوب، إلى جانب جماعات أخرى ذات توجهات دينية – صوفية، إخوانية، سلفية، دعوية وغيرها – ونُخب ثقافية وأكاديمية، وتكتّلات قبلية مثال حلف قبائل حضرموت، ومكوّنات شبابية متنوّعة ينادي بعضها بالثورة على جزء من التقاليد والعادات السائدة في حضرموت، وآخرون دون انتماء لما ذُكر ولكن لهم قناعات شخصية معينة يؤمنون بها، مثلهم مثل بقية الأفراد المنتمين إلى الفئات السابقة.
هذا المزيج من الأيديولوجيات ألقى بضلاله على التقسيمات السياسية الموسعة التي تشهدها حضرموت ضمن تيارات متعددة – ترتيب ذكر التيارات الآتية ليس له علاقة بالقاعدة الشعبية أو الأهمية بل عشوائيًا – وأهم تلك التيارات بشكل عام: “تيار مؤيد للوحدة اليمنية وأن تضل حضرموت كما هي الآن محافظة ضمن الجمهورية اليمنية، وتيار معارض عن الوحدة اليمنية يطالب بالانفصال واستعادة الدولة السابقة “الجنوب العربي” وأن تكون حضرموت ضمن تلك الدولة المنشودة، وتيار آخر مع أن تكون حضرموت دولة مستقلة بذاتها لا مع الوحدة اليمنية ولا مع الجنوب العربي”.
التيارات والمكونات والنخب والأحزاب السابقة لها علاقة كبيرة جدًا وأساسية في تزايد إنشاء “غرف الصدى” والانعزال الفكري والأيديولوجي لغالبية أفراد المجتمع، وهو ما جعل العديد من الأفراد يشعرون بـ”الفخر” أو “الزهو” – بقصد أو بغير قصد – حين نشرهم للأخبار والمعلومات وغيرها، عبر مجموعات “واتساب” أو “فيسبوك” أو مختلف منصات التواصل الاجتماعي دون التريث والتأكد أو حتى التفكير في صحة المعلومة أو عدمها، وهذا يعود كما ذكرنا إلى الإيمان السابق والتسليم والانحياز الكامل بأن ما يُنشر في مجموعته “قروبه” المنتمي إليه فكريًا صحيحًا 100%، حتى وإن تبيّن له عدم صحته فهو يبقى مصرًا على رأيه.
ويؤدي هذا التحيز الكامل إلى استمرار انتشار المعلومات المغلوطة، إذ تترك لها آثارًا في كل مكان تصل إليه في “غرف الصدى” تلك، وحتى إذا تم إثبات عدم صحة ما يتم قراءته فإنه من الصعب تعديل النظرة لصحة تلك المعلومات بسهولة. (Quora, Forbes.com, 2018).
“غرف الصدى Echo chambers” والإيمان المسبق ضمن التوجّه الواحد:
هذا النوع من الغرف بما له من إيجابيات إلا أن له مخاطر كثيرة، خاصة أثناء احتدام الصراعات السياسية أو الانتخابات أو صعود أحداث وقضايا على السطح، فينخرط العديد من الأشخاص – خصوصًا المشرفين على المجموعات – إلى اللجوء للمشاعر العاطفية لكسب المزيد من المناصرين أو كسب مؤيدين لقضية ما واستخدام مصطلح نظريات المؤامرة أحيانًا للتبرير وإثبات التوجّه، ويقوم الأعضاء كل من جهته بنشر كميات كبيرة من المعلومات والأخبار الهجينة، قد تصل نسبة عدم مصداقيتها – دون مصدر مؤكد أو صحيح – إلى أكثر من 90% للأسف.
ويتم تغذية نظريات المؤامرة تلك استنادًا إلى قاعدة سياسية متعطشة للبحث عن أسباب تمكِّنُها من صب غضبها أو النيل من التيار المعارض، وبمجرد تشكيل “غرفة الصدى” يمكن للأشخاص فيها اعتبار أي شيء على أنه “أخبار” صحيحة إذا كان ينتقص من ذلك العدو السياسي. (Quora, Forbes.com, 2018).
وطبقًا لهذا المنظور فإن الناظر إلى حال تزايد انتشار الإشاعات والأخبار في حضرموت يجد بأنه نابع من مثل هذه المجموعات، لأن الشخص العضو في “القروب” وخاصة قروبات “واتساب” قد انخرط في غالب الأحيان على أساس الولاء التام لأيديولوجية المجموعة، لذا فهو يؤمن إيمانًا كاملًا بما يُنشر فيها، مسلّمًا أن كل الأخبار والمعلومات والصور والفيديوهات صحيحة.
وحول هذا الخصوص، فقد أظهرت دراسة في مجلة العلوم science.sciencemag.org أصدرتها في العام 2015 تقول: أن الأشخاص يميلون إلى الانخراط في التفاعل مع معظم المعلومات التي تتطابق مع تصوراتهم الإيديولوجية المسبقة، وأن هذا يمثل تحيزًا في الاختيار أكثر بكثير من التصفية الخوارزمية للموقع. (David Robert Grimes, The Guardian, 2017).
ويأتي تسليم الشخص وإقراره بصحة الأخبار وعدم شكّه بأنها شائعات – وإن تبيّن له فيما بعد – من البناء مسبقًا عبر شعوره وقناعاته وإيمانه بآرائه حول قضيته والمنهج الفكري الذي يسير وفقه، وهو منهج وأيديولوجيا عززته “المجموعة” التي ينتمي إليها ويتفاعل مع أعضائها في المنصات الاجتماعية والتي ترتد فيها جميع الآراء بنفس التوجه والصيغة، وهو ما يدفعه إلى (النسخ واللصق) بكل سهولة وثقة، وتوزيع تلك المنشورات في أماكن متعددة من منصات التواصل الاجتماعي، ويتلقفها الأشخاص مثله المؤمنون بذات التوجه ويقوم البعض منهم أيضًا بنشرها في أماكن متعددة أخرى، وهكذا.
وقد حذر باحثان في العام 1996 ينتميان إلى معهد MIT للتكنولوجيا، وهما: “مارشال فان ألستين”، و “إريك برينجولفسون” من جانب مظلم محتمل للترابط الاجتماعي الحديث قائلين: “يمكن للأفراد الذين يتابعون المواد التي لا تتوافق مع تفضيلاتهم الحالية إنشاء مجموعات افتراضية، وعزل أنفسهم عن وجهات النظر المتعارضة معهم، وتعزيز هذا العزل والتحيز من خلال البحث والتفاعل مع أفراد ذوو تفكير مماثل وقيم متشابهة، مما ينمّي لديهم الثقة في القرارات والآراء تلك المجموعة أكثر من غيرها التي تختلف عن تفكيرهم وانتماءاتهم. (David Robert Grimes, The Guardian, 2017).
“غرف الصدى Echo chambers” ونشر الشائعات في حضرموت:
بعد اجتياح العديد من بلدان العالم من قبل فيروس كورونا أو مرض كوفيد 19، انتشرت في حضرموت جملة من الأخبار والشائعات كالنار في الهشيم، وازدادت بشكل أكبر بعد إصابة مواطن من حضرموت بهذا الوباء، مما جعل المواطنين في قلق متكرر من أخبار هذا الوباء، كما أن الأحداث السياسية الأخيرة بين “المجلس الانتقالي” و”الحكومة الشرعية” كان لها دور أيضًا في تأجيج وتصاعد الأخبار وانتشارها.
ونأتي هنا لنعيد السؤال: ما الذي يدفع شخص ما إلى أن يتجرأ بثقة إلى نشر أخبارًا أو صورًا أو فيديوهات عبر “نسخ، لصق” دون اللجوء إلى التحقق منها، وهو ما يزيد من انتشار الشائعات والأخبار الكاذبة “Fake news”؟
يمكننا تطبيق السياق الذي تحدثنا فيه سابقًا.. اليوم وفي ضل انتشار الأخبار عن جائحة كورونا وغيرها، فنرى بذات المقياس أن الأشخاص الناشرون دون تأكد يقومون بعملية “النسخ واللصق” بناء على إيمانهم السابق بموثوقية أعضاء المجموعة “القروب” لانتمائهم جميعًا أو الأغلبية الساحقة من الأعضاء فكريًا وأيديولوجيًا ضمن إطار واحد، مُقِرّون ذاتيّا أن كل ما يُنشر في تلك المجموعات هي عبارة عن أخبار صحيحة وموثوقة من منظورهم الشخصي، رغم أن أغلب تلك الأخبار دون مصدر واضح، بل إن بعضها ركيك في صياغته وضعيف في إملاءه، لكن يتم نشره دون مبالاة!!
هل من حل؟
لا يمكننا أن ننادي بإغلاق “غرف الصدى” المتمثلة في مجموعات “قروبات” الواتساب أو الفيسبوك وغيرها، أو الدعوة للخروج منها، وهو أمر لا يقبله ولن يقبله إنسان مع حرية التعبير والرأي والحق في الاختيار والانتماء، ولا يمكننا أيضًا الحكم بأن كافة ما يُنشر في تلك المجموعات هي شائعات أو أخبار كاذبة.. ولكن، يجب على الشخص المنتمي لمجموعات “قروبات” الواتساب أو الفيسبوك ومثيلاتها عدم التسرع بالنشر، وأن لا يُغلق عقله ولو جزئًيا من نشاطه التفكيري، وعليه التأكد مما يتم نشره سواء معلومات أو أخبار أو صور أو فيديوهات من خلال وسائل التحقق والتأكد المختلفة، والتي هي أساسًا في متناول يده، وقد تناولناها في موضوع سابق على صفحتي هذه.
يجب على الشخص كذلك النظر إلى ما يُنشر في مجموعاته “قروباته” التي ينتمي إليها ويؤمن بفكرها وأيديولوجيتها بعين عقله وليس بشعوره وعاطفته، وأن يكون هو ذاته حاكمًا على نفسه وتصرفاته، وليس محكومًا عليه في أفعاله وحركاته.
أيضًا، وسائل الإعلام “الميديا” بمختلف أنواعها في حضرموت لا بد وأن يكون لها دور في التصدي لهذا الأمر من خلال تفنيد الأخبار الكاذبة والشائعات، وهي طرق سردناها وأسهبنا فيها خلال موضوع سابق.