تحيلنا العديد من المواقف أحيانًا إلى الكتابة عنها من زوايا مختلفة وبأنماط أكثر اختلافًا، ولعلنا ندرك جميعًا بأن العلاقة التي تنشأ بين الإنسان وموقف ما ترتكز أساسًا على طريقة تفكيره ومستواه الفكري وأحيانًا التعليمي، ولذا فإننا نشاهد الكثير من الكتابات وخاصة على منصات التواصل الاجتماعي تتباين بين المنشور Post العادي ومقال الرأي والمقال العلمي وهكذا، ومن المواقف التي انتشرت مؤخرًا على منصات التواصل الاجتماعي موقف في حضرموت لرجل تم سؤاله من قبل المذيع عيدروس الخليفي ضمن برنامج تلفزيوني “عين على حضرموت” يتم بثه على قناة الغد المشرق، حاول الرجل الإجابة عن السؤال لكنه في الأخير لم يتمالك نفسه وانفجر باكيًا ليحتضنه المذيع بعدها ويقبّله.
انتشر هذا المرئي بشكل واسع على منصات التواصل الاجتماعي وتعاطف معه الشارع اجتماعيًا بكافة فئاته ومستوياته دون تحليل أو تقييم، لكننا وفي هذا المقال سنسلط الضوء على هذا الموقف من ناحية تحليلية اختصاصية من منظور إعلامي اتصالي، سنتناول الموضوع من زاويتين أساسيتين هما: الزاوية الأولى ستتحدد في التحليل السيميائي للصورة والخطاب المتوازي معها، أما الزاوية الثانية فهي ستتناول مفهوم “الصحفي الإنسان” ودلالة ذلك على الموقف الخاص بهذا المقال.
السيميائية.. السيميولوجيا:
قبل البدء في الجانب التحليلي للخطاب والصورة لا بد لنا وأن نشير إلى مصطلح السيميائية لنتعرف عليه ولو بإيجاز. إذ تنحدر كلمة سيميولوجيا من الأصل اليوناني Sémeion الذي يعني العلامة وLogos الذي يعني الخطاب، والذي نجده مستعملًا في كلمات مثل: Sociologie علم الاجتماع… وBiologie علم الأحياء… وبامتداد أكبر كلمة Logos تعني العلم… فيصبح تعريف السيميولوجيا على النحو الآتي: علم العلامات، وكلمة سيمياء لها ما يعادلها في اللغة العربية، ومنه ما ورد في أساس البلاغة “سوّم فرسه، أعلمه بسومه وهي العلامة” […] وانحاز أتباع الاتجاه السوسيري إلى تسمية هذا العلم بـ: السيميولوجيا، بينما أخذ مريدي شارل ساندرس بيرس بتسمية اليميوطيقا. (كمال جدي، 2012 – 2011، ص 12).
ويتوسع هذا العلم في تحليل العلامات والرموز التي تشهدها الصور والإشارات وحتى الخطابات سواء الاجتماعية أو السياسية أو غيرها، وتحديد العلامة والدال والمدلول والعلاقة التي بينهما، وكشف خلفيات الصورة وتفكيك رموزها وتحليل الكلمات وإيضاح دلالاتها.
وأشار سوسير إلى أن العلاقة بين الدال والمدلول هي عبارة اعتباطية غير متفق عليها، لذلك يجب علينا أن نعرف ونتعلم ما تعنيه جميع العلامات ويجب أن نعرف أيضًا أن العلامة تتغير بمرور الوقت، وبما أن اللسانيات تدرس كل ما هو لفظي ولغوي فإن السيميائية تدرس ما هو لغوي وغير لغوي، وتتعدى إلى ما هو بصري كلغة الصم والبكم وعلامات المرور ودراسة الأزياء إلخ، والشيء الأكثر أهمية في التحليل السيميائي ليس فقط الوصول إلى ما يحمله النص من علامات أو دلالة ولكن الكيفية التي قيل بها هذا النص ما قاله، وهذا يتطلب منا مراعاة المستويين السطحي ومستوى العمق في النص، فالوظيفة الأساسية للعلامة هي توصيل رسالة أو أفكار بواسطة الرسالة، وكل هذا يتطلب قاعدة وأدوات توصيل والأهم من ذلك المرجع والعلامات ومرسل ومرسل إليه. (وفاء عدلي، 2019، ص 177).
فمعرفة ما تعنيه العلامات الواردة في الصورة والتي تتغير من موقف إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، يتبعه تغيّر في التحليل والدلالة، إذ لا بد وأن تتضح قبل التحليل خلفيات الصورة أو النص المراد تحليله، لأن من خلالها يمكن للعلاقة أن تتضح جلية بين الدال والمدلول وتكون أقرب للهدف المراد تحقيقه منها.
وهناك اختلاف لفظي لمصطلح السيميائية، فهناك من يلفظها “السيميائية” وهناك من يلفظها “السيميولوجيا”. فالسيميولوجيا، تشير إلى التقليد السوسوري إذ ورد هذا المصطلح عند دي سوسير، في مخطوط له يرجع إلى العام 1894 يستعملهُ متبعو التقليد السوسوري للإشارة إلى دراسة الإشارات مثال ذلك بارت ليفي شتراوس وكريستيفا وبودريار، السيميائية، تشير إلى التقليد البيرسي في عملهم، مثال ذلك موريس وريتشاردز، وإنّ منشأ الاختلاف يرجع إلى أنّ الاقتراح الأوّل يشير إلى موضوع الدراسة التي تهتم بالدرجة الأولى بتحليل النصوص بينما يشير المقترح الآخر، “السيميائية” إلى دراسات ذات بعد فلسفي أكبر فهي ليست محض منهج لتحليل النصوص، وإنما تتضمن نظرية الإشارات وتحليلها إضافة إلى الشيفرات والممارسات الدالة. (بسام العميري، ص 177).
ومن أهم المرتكزات التي تشكل علم السيميولوجيا هي العلامة اللغوية فاللغة لدى دي سوسير عبارة عن مستودع من العلامات، والعلامة وحدة أساسية في عملية التواصل بين أفراد مجتمع معين، إذ يمر الدليل اللساني لديه بمرحلتين: الأولى انه لا يجمع بين شيء واسم، بل بين متصور ذهني وصورة سمعية، والآخر استخدامه لمصطلح المدلول و الدال بدل المصطلحين السابقين إذ يصف المدلول والدال بوجهي الورقة وجه جلي يمكن إدراكه هو الدال والآخر خفي لا يمكن إدراكه “المدلول” الذي يمثل الفكرة أو المفهوم اللذين يصلان إلى المتلقي عن طريق الدال. (بسام حسين، ص 176).
صورة وخطاب:
عندما نريد تحليل صورة أو خطاب ما، فلا بد أولًا من إعطاء لمحة عامة عن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية التي قضت مجريات واقعة الموقف المصوّر فيها، وهو ما يعني إعطاء فكرة عامة عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي والفكري في حضرموت ومدينة المكلا بشكل خاص، حيث المدينة التي تم تصوير ذلك المشهد فيها وفي أحد أسواقها، إلى جانب إعطاء لمحة عن الخلفية المعيشية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الرجل المتحدث، فدلالة حديثه وصورته تتشكل وفق البيئة والوضع الاقتصادي الذي يعيش معه وفيه، وهنا تبرز الدلالة الصورية للمرئي من حيث مقصد الحديث والصورة ودلالتهما على نفسية المتحدث سواء المذيع أو الضيف.
وفي هذا الإطار يعترف بارت بأن العلامة السيميولوجية تتكون كذلك من “دال ومدلول”، بيد أن دلالة العلامة السيميولوجية ترتبط بالاستعمال وفي سياق محدد، يقول في هذا الصدد: “تتكون العلامة السيميولوجية بدورها، مثل نموذجها، من دال ومدلول “فلون الضوء في قانون السير، مثلًا، أمر يتعلق بالسير أو التوقف في قانون شارات المرور”، لكنها تختلف عنها على مستوى الماهيات، في كثير من الأنظمة السيميولوجية “أشياء، إيماءات، صور” تكون ماهية التعبير مغايرة للدلالة: وهي، غالبًا أشياء للاستعمال حملها المجتمع غايات دلالية: فاللباس يقي الجسم ويغطيه، كما أن الطعام يخدم في مجال التغذية، ولكنهما يصلحان للدلالة على شيء ما أيضًا، ثم يضيف بارت موضحًا أن السياق الاستعمالي والوظائفي للعلامة يجعلها تتشبع بالدلالة، ويقترح تسميتها بالوظائف الدلالية Fonctions-signes التي تحمل معنى محددًا لها في “وجه أول” ثم تتجه نحو اكتساب معانيها الدلالية “الوجه الثاني” وذلك بتأثير المجتمع الذي يحول “كل استخدام إلى دليل على هذا الاستخدام”. (وائل بركات، 2002، ص 63).
ولإيضاح ما سبق فإننا نعطي أولًا لمحة عن الرجل حسب ما وصلتنا عنه من معلومات، فهو رجل موظف بالسلك الأمني ويتقاضى راتبًا أقل من 100 مائة ألف ريال يمني، أي ما يعادل أقل من 100 مائة دولار شهريًا، أما البيئة الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي يعيش فيها، فمن ناحية اجتماعية تتميز حضرموت وغيرها من المحافظات اليمنية بالترابط المجتمعي، ويختلف ذلك الترابط في متانته من محافظة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى أيضًا، وتُعد المكلا من المدن التي مازالت تحظى بروابط اجتماعية متينة، حيث يمكن لرب العائلة من مساندة أبنائه والعمل على توفير كافة مستلزمات الحياة بكل تفانٍ وإن ساهم أولاده أو بناته في ذلك، فالرابط الاجتماعي والديني لدى الأغلبية يدفعه بأن يبني حياته وحياة أبناءه حتى زواجهم، وهذا الترابط مازال موجودًا ليس فقط في مدينة المكلا بل على مستوى محافظة حضرموت والعديد من المحافظات الأخرى، وهو ما يعطي فكرة لدى رب الأسرة بأنه ملزم خلال يومه بتوفير كافة الاحتياجات المعيشية لأسرته وإن كانت الأوضاع صعبة، وهو وضع يتصادم كثيرًا مؤخرًا مع الارتفاع الهائل لأسعار الأغذية وإيجارات البيوت والمشتقات النفطية مع ضعف للمساهمة الحكومية لإيجاد حلول ملموسة.
اقتصاديًا أيضًا فإن البلد جميعه يعاني أزمة اقتصادية حادة منذ سنوات خلت، وتزايدت هذه الأزمة وألقت بضلالها القاتمة على المواطن بعد الحرب المستمرة إلى يومنا هذا بين الشرعية اليمنية بدعم وتدخّل من قبل التحالف العربي بقيادة السعودية وبين الحوثيين، حيث تعاني المحافظات التي تحت قيادة الشرعية اليمنية من انهيار اقتصادي متزايد وارتفاع في صرف العملات وعجز مالي تصرح به الحكومة في أغلب اجتماعاتها، هذه الارتفاعات الصرفية المتواصلة جعلت من السوق الغذائية والعقارية والنفطية مسرحًا لاستنزاف ما تبقى من طاقة المواطن المغلوب على أمره، حيث الرواتب المتدنية لدى من رواتبهم مستمرة والانقطاع شبه الكامل لتلك الرواتب لدى من هم تحت حكم الحوثيين، ناهيك عن غير الموظفين من السكان وهم الأغلبية، حيث تشكل هذه المعاناة الاقتصادية حاجزًا أمام المواطن تُعجزه حينًا وتمنعه أحيانًا أخرى من جلب حاجياته المعيشية بسهولة ودون معاناة.
إن ما علا ذكره يعطينا لمحة موجزة عن البيئة التي يعيش فيها الرجل الظاهر في المشهد المرئي، ما يعني أن الرجل يُعد نموذجًا لعشرات بل آلاف الأفراد المشابهون لحالته في عموم محافظات اليمن لم تستطع الكاميرات الوصول إليهم وإعطائهم الفرصة للحديث عن معاناتهم ومشاكلهم التي يواجهونها، إذن.. لدينا في هذا المرئي حوارًا (خطاب)، وصورة (علامات)، والحديث دار بين المذيع والضيف بصيغة السؤال والجواب، نسرد تحليله مجملًا تاليًا:
السؤال الأول للمذيع الذي يرتدي “فنيلة” سوداء وبنطالًا أو إزارًا رمادي اللون: “نشاهدك في السوق.. كيف هي الأسعار، أسعار الأسماك؟” كان بصيغة المتسائل الذي يريد أن يضفي نوعًا من الحيوية على السؤال، مع نظرة إلى الأرض مع لفظه كلمة “السوق” كتأكيد على المكان وبين أشخاص آخرون كما يبدو في المكان، ابتسامة خفيفة لا تكاد تظهر يختم المذيع بها سؤاله، تخفي وراءها محاولة تلطيفية للمعاناة، إلى جانب انتظاره لحديث الضيف باهتمام عن الأسعار تجسد في حركة يده وبسط أصابع كفه.
الضيف المرتدي لمسترة “شميز” كركمي اللون تلفّ رأسه “عمامة”، كانت إجابته كما بدا واضحًا في تقاسيم وجه المذيع أنها لم تكن متوقعة من حيث تأثر الضيف من السؤال، خاصة بعد سماعه لكلمة “الأسعار”، وكما يبدو من حديثه بأن هذه الكلمة كان لها شديد الوقع في نفسه، حيث بدأ الضيف إجابته بابتسامة حذرة تُنبئ عن انفجار عاطفي لا شعوري قد يحدث من خلال اتساع عينيه وتركيزهما بشكل شبه تام على وجه المذيع وكأنه يريد الهروب ممن حوله وأعينهم المحدقة فيه، كما أن دلالة الصورة تلخص الضغط النفسي الذي كان يعانيه الضيف المتحدث ومعايشته حالة من الصراع النفسي الداخلي، ليواصل بعدها الضيف حديثه بالإفصاح عن عدم استلامه لراتبه منذ أشهر، ومع هذا الإفصاح تبتعد عيناه بخجل عن المذيع في حركة سريعة ثم تعود لتركيزها على وجه المذيع، بعدها تزاحمت عبارات الأسى على لسانه، مما جعله يتلعثم حينًا ويخفض صوته حينًا آخر، وهنا بدأت شفتا الرجل تميل للأسفل بشكل خفيف مع تداركها بابتسامة حذرة أيضًا، وهي دلالة للتعبير عن ذلك الأسى المكنون الذي يحمله في نفسيته، وهذه الصورة تكشف بوضوح عن الخلفية التي كان الرجل قد تشبع بها في منزله وخرج حاملًا إياها إلى السوق عبر مشاعره وتفكيره.
السؤال والإجابة الفائتة تعطي للمشاهد منذ البداية منظومة شكلية عامة عن دلالات الإشارات والإيماءات التي حدثت بين المذيع وضيفه المتحدث في بيئة ذات دلالة أيضًا “سوق السمك”. ويبرهن دي سوسير على أنّ المنظومة الشكلية العامة والمجردة هي التي تجعل الإشارات ذات معنى فتصوره للمعنى محض بنيوي وعلائقي بوصف أنّ انبعاث الأهمية للعلاقات وليس للأشياء وانطلاقًا من هذا فإنّ قيمة الإشارة تكمن في علاقتها مع بعضها في المنظومة وليس ناتجة من أي سمات داخلية في الدلالات ولا عن أشياء يمكن إرجاعها إلى الأشياء المادية. (بسام العميري، ص 183)
إجابة الضيف الغير متوقعة وبلهجة تبيّن تقاسيم الحزن على وجهه جعلت من المذيع جسدًا واجمًا أمام المتحدث مع ظهور علامات الجدية واختفاء الابتسامة، وارتكاز محور عينيه على تقاسيم وجه المتحدث باهتمام بالغ، حاول استدراك الموقف بسؤال: “أنت موظف؟ 8 شهور من دون مرتب” بعد أن قاطع المتحدث بإشارة من يديه مع ميول حاجبيه كحركة تضامنية معنوية للضيف المتحدث، ليجيب الضيف بكلمة “بدون” مع حركة من يده تعبّر عن المستوى الاقتصادي الصفري له، مع تزايد ميلان شفتيه للأسفل تعبيرًا عن قرب الانفجار العاطفي اللاشعوري.. بعدها يؤكد الضيف المتحدث بعدم استطاعته الكاملة حين أقسم في إجابته: “والله ما قدرت أشتري حتى الصيد” وهنا تجسد الصورة التعبيرية المكسوة بالتأثر الحزين لوجه المتحدث المتأثر مأساة الرجل وأمثاله وامتدادها على طول تلك الأشهر التي لم يتسلم فيها راتبه.
ودلالة الصورة المتمثلة في المكان الذي تم تصوير المشهد فيه “سوق السمك” بعاصمة حضرموت “المكلا” والعبارة التي أفاد بها “والله ما قدرت أشتري حتى الصيد”، فيها معنى دلالي بليغ يصيب العقل بالحيرة، وهي أن الرجل لم يستطع شراء السمك في بيئة مصدرة للأسماك!! ومحافظة ترتع على شريط ساحلي يبلغ طوله 120 كم تقريبًا على البحر العربي الذي يتمتع بظاهرة التقلب المائي، وهو ما يعني استمرار توافر الأسماك على طول العام تقريبًا، لكن المشهد يلخص لنا صورةً أخرى تُفيد بأن المواطن في حضرموت وغيرها يظهر وكأنه مسلوب القرار الحقيقي “الحرية” للعيش بثرواته.
وفي هذه الحالة، يحيلنا هذا الموقف إلى مسألة الحرية التي ينشدها الإنسان العصري الحديث وأن سيطرة العقل البشري أصبحت سيطرة نافذة على منابع الاقتصاد بل سيطرة على الإنسان نفسه وكل مقدراته، ليعيش تحت ظل العقل البشري الآخر المسيطر، وهنا ينشأ لدينا سؤال: هل الإنسان في تلك المناطق حر أم تمت السيطرة عليه وعلى موارده الطبيعية من قِبل الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين في تلك البلاد؟
ترى أرندت بأن ذلك قد تم عندما تحول العقل لأداة للسيطرة على الطبيعة ثم على الإنسان، والمقصود بالعقل هنا العقل الأداتي أو التقني القائم على التكميم والموجه نحو ما هو عملي وتطبيقي ونفعي، حيث نجح العقل الأداتي في تشييء الإنسان واستخدامه من قبل المؤسسات الاقتصادية والسياسية وأجهزتها الأيديولوجية القائمة على تكريس المصلحة والهيمنة بصورها المختلفة. (عزة عبدالله، محمد فرج، نشوى محرم، 2020، ص 197).
ولو دققنا النظر في مثالنا من المنظور الأرندتي لوجدنا فعلًا بأن الرجل وأمثاله من المواطنين قد أصبحوا “شيء” في نظر المسؤولين في إطارهم المجتمعي المحلي والإقليمي، أصبح الرجل يعمل باستمرار دون موافاة مدير مصلحته براتبه الشهري لمدة 8 أشهر، كما أن الموارد الطبيعية من الأسماك التي يعيش على بحرها لم يعد بإمكانه امتلاكها كونه لا يملك الأدوات اللازمة للحصول عليها “المال الكافي – القرار السياسي”.
وجرت على لسان الضيف المتحدث أيضًا عبارة “وضع سيء للغاية” وكانت متداولة بشكل متكرر في حديثه، وهي كذلك عبارة تكشف مدى الأزمة النفسية والمعاناة الاجتماعية التي يعيشها الرجل، كما أن المشهد حين لحظة تلعثم الرجل في حديثه وخفض بصره إلى الأرض بعد ذكره للمحافظ لهي صورة تعبيرية أخرى تكشف حالة الخجل الشديد والرجاء الذي ينشده الرجل بأن تلتفت السلطة المحلية إلى أوضاع المواطن الذي يعاني ويلات غلاء المعيشة، جعلت منه مجتمعًا يطحن تحت رحى الأسعار دون هوادة.
المذيع سأل الضيف سؤاله الأخير، كان بصيغة المتعاطف مغلفًا بابتسامة خفيفة وحركة يد تضامنية تشد من أزر المتحدث: “ايش الحل من وجهة نظرك؟”، السؤال في حد ذاته كان عميقًا للإجابة عنه من قبل المختصين الاقتصاديين، لكنه كان أكثر عمقًا من ناحية عاطفية على الضيف، إذ وجدها فرصة للمناشدة بصرف الرواتب ولا غيره، مع اكتساء وجهه بكل ملامح الحزن حين ذكره لأولاده الذين يريد أن يوفر لهم لقمة العيش بكل سهولة، وعودة الرجل إلى تلعثمه في الحديث وتململه عن مكانه لهي صورة جلية تكشف بأن وضعه المعيشي لم يعد مستقرًا بل زاد عن حده نحو الانحدار، عبّر عنه بقوله: “نسرق؟؟ ما يقع”، بعدها انهمر باكيًا مع محاولته لستر عينيه ووجهه بكفّ يده في صورة تعبّر عن مأساته وخجله لبكائه أمام الكاميرا وممن حوله في السوق.
إن عملية البكاء تلك تحيلنا إلى نظرية “أفعال الكلام”. حيث تقترح هذه النظرية في تحليل العلامات اللسانية الملفوظة والمعنى الناتج عنها أداة إجرائية تكون هي المنطلق والأساس الفاعل في القراءة، تتمثل هذه الأداة في الموروث اللساني التداولي في الفعل من حيث أنه النشاط الممكن إنجازه بتلفظنا لنوع من الجمل […] وقد ميّز أوستين بين ثلاثة أنواع من الأفعال الكلامية: “فعل قولي Locutoire” وهو فعل التلفظ بجملة مع شرط الإفادة، أي إنه فعل لقول شيء ما، يراعي فيه قواعد اللغة، ويلاحظ عبر هذا النوع من الأفعال الكلامية عدم إبداء اهتمام بالشخص المتكلم فاعل العبارة، و”فعل إنجازي illocutoire” يراد به الحدث الذي يقصده المتكلم بالجملة كالأمر والتحذير، ولا بد أن يحدث أثرًا وتأثيرًا ما على المخاطب، وتكون قيمة العبارة به واصلة إلى تأدية المقصود، و”فعل تأثيري (استلزامي) Perlocutoire” هو التأثير الذي يوقعه الحدث اللساني في المخاطب أو المتلقي، كطاعة الأمر، وتقبل النصيحة، وهذا النوع من الأفعال مفهوم من الخارج، ومن قرائن الأحوال. (مختار درقاوي، ص 22).
حيث من خلال الفعل الكلامي الذي تم إنجازه من قبل الرجل الضيف عبر حديثه وانفجاره بالبكاء كانت لها تأثير على المذيع أولًا تجسد في احتضانه وتقبيله له، وردود فعل متعاطفة من قبل الشارع وتناقلها بصيغة تعاطفية عبر منصات التواصل الاجتماعي بشكل واسع.
“الصحفي الإنسان”:
قبل الحديث عن المفهوم وإسقاطه على الموقف المصوّر الخاص بموضوعنا لا بد من التسليم بصورة حقيقية بأن الصحفي البشري هو عبارة عن إنسان مكتوب عليه الموت والحياة، مخلوق من طين وله جسد من لحم ودم، يمتلك قلبًا ويتمتع بمشاعر الحب والكره والخوف وغيرها بشكل حقيقي، وليس كما يتوقعه البعض آلة حديدية أو بلاستيكية “روبوت”، لا تمتلك من المشاعر أو الإحساس شيء، إذن.. كونه كائن بشري فالقلب والعقل لا بد وأن يأخذا مجراهما الطبيعي وأن يُنشئا علاقة وطيدة بينهما.
فالعديد من المراجع الصحفية أكدت على قوة العلاقة بين العقل والقلب حتى أثناء ممارسة المهنة، فالصحافة وجدت أساسا من أجل رفعة الإنسان وصونه، “ولا فرق بين كشف مجرم من خلال استقصاء صحفي معمق وتقديمه للعدالة، وبين إنقاذ روح بشرية، فالعملية الأولى سامية لكن الثانية تظل أسمى بكل المقاييس” حسب ما يقول رئيس تحرير الشبكة الفلسطينية للإعلام الإنساني “أنسنة” محسن الإفرنجي. ويتابع: “مهنة الصحافة قاعدتها الأخلاقيات والمبادئ الإنسانية السامية، التي تعد الناظم للعمل وللسلوك والأقلام والكاميرات والمشاعر أيضاً”، مضيفا “المهنة بنيت قبل كل شيء على حب الخير والسلام، لكن بعض الصحفيين تجدهم يقدمون المصلحة الشخصية وبريق الشهرة ومصلحة أحزابهم على فكرة تقديم العون والرسالة التي يجب أن تكون منوطة بأي عمل صحفي”. (محمد أبو دون، معهد الجزيرة، 2018).
“الصحفي الإنسان”.. من تركيبة المفهوم يتبيّن بأن الإنسانية في هذه الحالة هي المتبوعة بمهنة الصحافة، وأن الصحفي رغم مهنيته إلا أن طباعه الإنسانية تجبره في بعض المواضع إلى تقديم الجانب الإنساني على الصحفي المهني، ولا نعني “بالتقديم” المساعدة الجسدية أو الفعلية فحسب، بل حتى تقديم المساعدة عبر المهنة ذاتها، كأن يحرر ويقدم مادة صحفية أو يلتقط صورة إنسانية يكون لها الأثر بعد نشرها.
وقد أدت صورة التقطها المصور الصحفي نيك أوت في 8 حزيران/ يونيو 1972 خلال حرب فيتنام لفتاة تدعى “كم فوس” كانت تجري عارية من هول المصيبة وسط الطريق هاربة من النيران، تحاول اللجوء لمأوى تكون فيه بعيدة عن الموت والدمار، بعد أن أحرقت النيران جسدها بقنابل النابالم، إلى تغيير نظرة العالم وكانت السبب الرئيسي في وقف الحرب، وبينت هول الكارثة نتيجة الحروب. (بسام أبو الرب، 2015).
فالصحفي الإنسان هو من يستعرض الإنسانية في عمله الصحفي، وقد يكون هذا الاستعراض الإنساني مقصودًا أو غير مقصود، ولكنه يؤدي رسالة إلى المتلقي لتلك المادة سواء كان المتلقي صانع قرار أو مواطن عادي، ينتج عنها تفاعلًا شعبيًا قد يكون واسعًا – رأي عام – وهذا الأمر يُدخل الصحفي ذاته أحيانًا في مأزق نفسي حول الموضوعية والمهنية في العمل الصحفي، وهل عندما يعطي الصحفي أحيانًا جانبًا من اهتمامه الإنساني خلال عمله أنه قد أخل بعنصر أساسي من عناصر التغطية الصحفية المهنية، حيث من خلاله قد يتعرض الصحفي إلى انتقادات أو عمليات مضايقة أو تهديد، ولمنع أن يتعرض الصحفي إلى مثل تلك التهديدات على حياته خلال تغطيته للأحداث خاصة في مناطق النزاعات سنّت الكثير من الدول قوانين أو خطوط عريضة لامتهان العمل الصحفي وإعطاءه الحق في التعبير عن رأيه.
وقد عالجت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وكذلك البروتوكولان الملحقان بها عام 1977، نطاق تطبيق كل منهما على النزاعات المسلحة، سواء كانت دولية أم غير دولية، مما يجعل نطاق تطبيقها يقتصر على أطراف بعينها دون أخرى دخلت نزاعًا مسلحًا، ويتسنى لهذه النصوص محاسبة وملاحقة مرتكبي الانتهاكات بحق الصحفيين. (سجى عبدالستار، 2017، ص 46).
ويبقى إظهار الإنسانية في العمل الصحفي محل إشكال خاصة الإظهار الفعلي – على أرض الواقع – أما إظهار الإنسانية في العمل الصحفي فهو موجود ومتمثل في شكل صحفي “القصة الإنسانية” أو التقارير الإنسانية “الفيتشر”، وربما يحقق أهدافًا سامية في بعض المواضع كما هو الحال في صورة الفتاة الفيتنامية التي أدت إلى توقف الحرب وإنقاذ الأبرياء من رحى الحرب التي لا تبقي ولا تذر، كما أن المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تكفل هذا الحق بالنسبة للصحفي أو غيره من الأفراد والتي تنص على: “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية”.
وفي هذا الشأن اشتملت السطور الأخيرة من كتاب ” Letters from the Editor: Lessons on Journalism and Life” وهو كتاب يحوي رسائل الصحفي “ويليام وو” William Woo، الذي يُعد أول أمريكي من أصل آسيوي يحصل على مكانة في سجلات الصحافة الأمريكية يدير صحيفة أمريكية كبرى هي جريدة The St. Louis Post Dispatch عام 1986 والذي توفي بمرض السرطان عام 2006 عن عمر 69 سنة، قالت السطور: “باختصار، الصحفي الذي يتسم بالضمير الحي ليس محصنًا من الشكوك والقيم المتضاربة واحتمالية الخطأ التي تشكل جزءًا من الاحتمالات اليومية لكل رجل وامرأة، والسبب في ذلك هو أن الصحافة ليست غاية في حد ذاتها ولكنها تنشأ من الحياة الأكبر التي نعيشها كبشر، إذا كانت نهاية الصحافة هي الصحافة، فعندئذ ستكون مؤسسة قائمة بذاتها، موجودة خارج المجتمع، لكن نهاية الصحافة لا تعني الصحافة أكثر من أن تنتهي كعملية جراحية، على سبيل المثال، أن يقطّع الناس بعضهم البعض بدلًا من إنقاذ الأرواح”. ويضيف: “أعتقد أن نهاية الصحافة هي خدمة الناس بأعمق طريقة ممكنة… لذلك ستحتاج إلى ذكاء وخبرة للقيام بهذا النوع من العمل وأيضًا الشعور بإنسانيتك “. (برينت وولث، 2007).
وكما ذكرنا سابقًا بأن الصحفي هو كائن بشري وليس آلة أو روبوتًا، فإنه وفي هذا السياق أُجريت دراسة للمقارنة بين مقالتين إخباريتين حول موضوع موحد، أحدهما كتبه صحفي آلي “روبوت” استخدمته صحيفة لوس أنجلوس تايمز والآخر كتبه صحفي بشري، ولتحديد الاختلافات بين هاتين المقالتين ركزت الدراسة على الموضوعية والوضوح والاختلاف، كما تم التساؤل عما إذا كان الصحفيون المرشحون يعتبرون هذه الخوارزميات تهديدًا لوظائفهم، كانت الدراسة بمشاركة 12 طالبًا من طلاب كلية الاتصال تراوحت أعمارهم ما بين 24 – 21؛ 4 منهم نساء و8 رجال، استغرقت المقابلة المركزة حوالي ساعة واحدة، وتوصلت الدراسة إلى عديد نتائج أهمها: أن الصحافة الروبوتية يتم تقييمها في هيكل أسرع وأكثر اقتصادًا، على أساس نتائج دقيقة موضوعية قصيرة، ومفتوحة للتلاعب بسلطات معينة، والقضاء على عملية التحرير، كما أنها لا تتضمن المشاعر والأفكار مثل المقابلات، وذكر المبحوثون أنهم قاموا بتقييم الصحفيين البشريين بشكل يتميز بعناصر مثل الفكر العاطفي والضمير والمعرفة الكاملة بعملية التحرير والقدرة على متابعة الجانب الفكري للخبر. (ناسي ساريلار، 2019، ص 207).
ويجرنا هذا الأمر إلى أهمية تسليط الضوء حاليًا من قبل الصحفيين حول القصص الإنسانية، والتي أصبحت اليوم شكلًا صحفيًا مهمًا وذا قيمة لدى المتلقي، إذ يمكن للصحفي أن يجسّد المشهد الاجتماعي الذي عايشه في مادته من زاوية إنسانية تُظهر للمتلقي مدى أهمية الموضوع، كما أن أسلوب الكتابة فيها يتطلب إمكانية وصف صحفية وأدبية دقيقة للعواطف والأحاسيس الحاضرة في المشهد بكل عناية.
وقد برزت تقارير القصص الإنسانية – أو ما تسمى تقارير الفيتشر- كنوع جديد من التقارير الصحفية التي تتجاوز وظيفتها مجرد نقل الخبر، إلى حمل الهم الإنساني والكشف عن خفايا شريحة كبيرة من الناس تعيش أوضاعا مريرة قلّما تسلط عليها الأضواء، وهي مهمة تعجز عن القيام بها قوالب أخرى من التقارير الصحفية تراوح بين صياغة الخبر والتزام المحرر بالسياسات التحريرية الجامدة. (علي أبو مريحيل، 2020).
وعليه فإننا حين نعود إلى المرئي “الفيديو” الخاص بموضوعنا نرى جليًا بأن إنسانية المذيع تجلت في مرحلتين، الأولى حين وجومه ساكنًا وتأثره عند رؤيته للرجل المتحدث متأثرًا ومندفعًا بشكل غير متوازن في نهاية إجابته عن السؤال مع ظهور علامات الحزن بادية على وجهه، والثانية في احتضانه للرجل بعد بكائه كخطوة مواساة لمشاعر الرجل، وكخطوة أيضًا لتطمينه بأنه ليس واقفًا أمام روبوت ليس له مشاعر أو أحاسيس، بل هو أمام بشري له إحساس الإنسان وإن كان يحمل صفة “صحفي” أو “مذيع”، والأهم من ذلك.. أن تكون هناك صحافة ومؤسسات ميديا يمنية تعطي هذا الجانب – البحث في معاناة الناس – حيزًا من مساحتها وتظهر جهد المواطن ومعاناته في الحصول على احتياجاته المعيشية اليومية اللازمة في ظل الأوضاع الصعبة التي ترزح تحت سوادها البلاد.
—————————
مراجع:
1- جدي، كمال، المصطلحات السيميائية السردية في الخطاب النقدي عند رشيد بن مالك، مذكرة من متطلبات شهادة الماجستير في اللغة العربية وآدابها تخصص: النقد العربي ومصطلحاته، جامعة قاصدي مرباح ورقلة، الجزائر، 2012 – 2011.
2- عبدالله، وفاء عدلي، التحليل السيميائي لصورة المرأة في الخطاب الإعلاني بالمواقع الإلكترونية بين الدال والمدلول، المجلة العلمية لبحوث الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، العدد السادس، يوليو – ديسمبر 2019.
3- بركات، وائل، السيميولوجيا بقراءة رولان بارت، مجلة جامعة دمشق، المجلد 18، العدد الثاني، 200.
4- العميري، بسّام علي، ملامح السيميولوجيا عند دي سوسير بين المفهوم والمرتكز، مجلة دواة الفصلية.
5- درقاوي، مختار، نظرية أفعال الكلام تعريف بالمفاهيم، جامعة حسيبة بن بوعلي – الشلف.
6- إسماعيل، عزة، فرج، محمد، محرم، نشوى، نقد الحداثة عند حنا أرندت من منظور أنثروبولوجي، مجلة البحث العلمي في الآداب، عدد خاص، 2020.
7- أبو دون، محمد، صحفيون على خط النار.. الإنسان قبل السبق، معهد الجزيرة للإعلام، 12 نوفمبر 2018.
8- أبو الرب، بسام، الصحفي الإنسان، موقع وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفاء)، 8 أكتوبر 2015.
9- عبدالستار، سجى، حماية الصحفيين في القانون الدولي الإنساني، رسالة استكمال متطلبات الحصول على درجة الماجستير في القانون العام، قسم القانون كلية الحقوق، جامعة الشرق الأوسط، 2017.
10- أبو مريحيل، علي، عن الفيتشر والأنسنة الصحفية، معهد الجزيرة للإعلام، 3 مارس 2020.
11- Walth, Brent, The Humanity of Journalism, Nieman Reports site, 2007.
12- Sarilar, Naciye, Robot Journalist or Human Journalist?: An Analysis is Over News Articles, Communication and Technology Congress – CTC, Turkey, İstanbul, April 2019.
ملاحق:
رابط المقابلة على يوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=DiYTc-fY7sw