الصحافة العلمية Science Journalism العربية.. إشكالية ومقومات واحتياجات!

النشأة والمفهوم:
لعلك سمعت مؤخرًا عن مفهوم “الصحافة العلمية” “Science Journalism” أو “scientific journalism” بشكل متزايد في العديد من المواقع أو وسائل الميديا والصحافة، وربما وردت إلى ذهنك الكثير من التساؤلات، ما هي الصحافة العلمية ومتى نشأت؟ وما دورها بالنسبة للصحافة، وكيف سيكون قبولها لدى المتلقي وخاصة في العالم العربي؟
وتعود الصحافة العلمية المهتمة بالعلوم الحديثة إلى مجلة “Digdarshan”، وهي مجلة شهرية تعليمية بدأت النشر في عام 1818 من (سريرامبور) بالبنغال، في الهند، وتضمنت “Digdarshan” مقالات في مختلف مجالات العلوم، مثل النباتات والقوارب البخارية وغيرها، وكانت تتوفر باللغات البنغالية والهندية والإنجليزية. (https://cutt.us/weGBa).


وصدرت أول مجلة علمية في الولايات المتحدة الأمريكية في مايو 1872، عندما أصدر أستاذ الكيمياء في جامعة هارفارد “إدوارد ليفنسجتون يومانز” مجلة “العلوم المبسطة الشهرية Popular Science Monthly”، وفي بريطانيا سنة 1905م صدرت “المعلم الذاتي Self – Educator” فيما يشبه المجلات الشهرية بهدف تبسيط المعرفة، وكانت أول صحيفة علمية مبسطة صدرت في فرنسا في صورة مجلة علمية باسم “العلم والحياة Science et Lavie” عام 1911م في باريس ومازالت تصدر شهريًا حتى يومنا هذا وإن تغير اسمها إلى “علم وحياة Science et vie”. (ريم أبو حصيرة، 2018، ص: 72).
ومن خلال تلك المقالات العلمية التي كانت تُنشر، بدأت المجتمعات بالتعرف على أهمية الصحافة العلمية على وجه الخصوص، خاصة وأنها تعمل على تقديم المعلومة البحثية على شكل صحفي يسهل على المتلقي فهمه واستيعابه وتقبله بمزيد من الاطمئنان، سيما وأنه يعتمد على مصداقية المصادر ودقة المعلومة وصحتها.
وعربيًا، فقد صدرت أول مجلة طبية متخصصة عربية في مصر عام 1865 تحت اسم “اليعسوب” عن مدرسة الطب حينها، وتميزت بعرض المعلومات الصحية والعلمية بطريقة يسهل على العامة فهمها واستيعابها. كما كانت أول مجلة تسمح للنساء بالكتابة فيها. توقفت التجربة بعد خمس سنوات، ولم تتكرر مرة أخرى إلا بعد نحو مئة عام، وتحديدا في 1969 مع تأسيس مجلة “طبيبك” الخاصة التابعة لدار “الهلال” المصرية الحكومية. توالت بعدها الإصدارات العربية التي بقيت محدودة الانتشار مقارنة بأنماط الصحافة الأخرى، لا سيما السياسية والاقتصادية والرياضية. (هاني بشر، 2020).
وتطور مفهوم الصحافة العلمية وانتشر بشكل أوسع بعد أن أكده تكرارًا “جوليان أسانج” أثناء حديثه عن موقع “ويكليكس” الذي أسسه وعن وثائقه خلال 2011-2010، وذلك في مقابلة ضمن برنامج “The Colbert Report” التلفزيوني الذي يقدمه “Stephen Colbert”، عندما أعلن أن الصحافة العلمية scientific journalism هي شكل جديد من أشكال الصحافة التي ستعيد نفوذ الصحافة وقوتها نحو المصادر الأساسية للوثائق المستخدمة في التقارير لبناء الحجج وإكسابها المزيد من التحرر الذي من شأنه أن تأخذ الصحافة مكانتها بين المواد التي غالبًا ما تكون غير مقبولة في الصحافة الانجلو – أمريكية “الموضوعية”. (Lisa Lynch، 2012).
ويُقصد بالصحافة العلمية Science Journalism: “هي الصحافة التي تنقل التقارير حول العلوم إلى الجمهور، ويتضمن المجال عادةً تفاعلات بين العلماء والصحفيين والجمهور”. (https://cutt.us/DPt4l).
والصحافة العلمية باعتبارها مرتبطة بالعلوم الأساسية وتطبيقاتها التقنية، تحقق جزءًا من وظيفة العالم، الذي هو مجالها ومصدر نشاطها، أي أن لها جزئية من وظائف العلم نفسه، وإذا كان العلم يحقق إسهاماته في الحياة الاجتماعية ككل، فإن الصحافة العلمية لها وظيفة اجتماعية من خلال تلك العلاقة بين النشاط الذي تمارسه وبين البناء الاجتماعي الذي تستهدفه، وبهذا تتحدد وظيفة العلم بتسخيره لتحسين شروط حياة الإنسان، وتحقيق رفاهيته، ورفع مستوى معيشته، فقيمة العلم مرهونة بأثره في الحياة الاجتماعية. (ريم أبو حصير، 2018، ص: 70).
إذن، فالصحافة العلمية Science Journalism ليست كما هي الصحافة العامة التي تقدم الأخبار على نمطها العام وتربطها بآراء العامة من الناس، بل هي صحافة قائمة على المعلومات البحثية المرتبطة بمصادرها العلمية من الخبراء والمختصين والعلماء في علم أو اختصاص معين، ويقوم هذا النمط من الصحافة – الصحافة العلمية – بتقديمها للجمهور بشكل صحفي يتم فيه الاستيعاب بسهولة ويسر من قبل المتلقي.
فالصحافة تعكس وضع المجتمع، والصحافة العلمية تعكس وضع البحث العلمي في المجتمع، والمؤسف أن معظم الصحفيين الذين يتابعون الشؤون العلمية غير متخصّصين، والعلم لا يتحمّل الخطأ، والصحافة العلمية تقتضي الدقة، والخلفية العلمية، ومتابعة الأحداث، والإلمام بجديد العلم والتكنولوجيا، ومعرفة المصادر الموثوقة والاصطلاحات العلمية. (علياء رمضان، 2020، ص: 2949).
وتتميز الصحافة العلمية Science Journalism بالدقة في المصادر وتقديم المعلومة إلى الجمهور، لأنها قائمة على البحث والعلم وصقله في العمل الصحفي، وهنا يظهر دور الصحفي وخلفيته وتمكنه من موضوع التخصص وقراءته المتواصلة عنه، ليستطيع بعد ذلك حصر المعلومات ومصادرها في شكل صحفي سلس ومبسط للقارئ أو السامع أو المشاهد، يمكنه من فهم بحوث برمتها في ملخص وافٍ وشامل.
ويرتكز الأمر على الجمهور كذلك، حيث أصبح الجمهور المتلقي اليوم بحاجة إلى المزيد من خلق العلاقة بينه وبين الصحافة ووسائل الميديا من حيث تعميق المصداقية، وقد بادرت الصحافة العلمية Science Journalism إلى البدء في إكساب المتلقي المصداقية، لما تتمتع به من تحديد في التخصص والبحث المتعمق للمعلومة ووضوح مصادرها المرتبطة بمراكز التخصص وخبراء المهنة.
وقد أوضحت دراسة عن الثقة في مضامين الصحافة العلمية على شبكات التواصل الاجتماعي بأن نسبة 67.1% من أفراد العينة يثقون في الصحافة العلمية أحيانًا، ونسبة 28.1% منهم يرون أنهم يثقون دائمًا في المعلومات، ونسبة 4.8% منهم لا يثقون في المعلومات. (علياء رمضان، 2020، ص: 2954).
وتنتمي الصحافة العلمية Science Journalism إلى الصحافة المتخصصة التي انتشرت مع انتشار التعليم وتطور العلوم في كافة المجالات الطبية والبيئية والاقتصادية والرياضية وغيرها، وقد ساهمت الصحافة المتخصصة في إيضاح الصورة للعلوم التخصصية لغير المختصين في تلك المجالات وتلبية احتياجاتهم لفهم التخصصات الأخرى، وجعلت منها علومًا واضحةً ذات لغة صحفية مفهومة بدلًا من لغة العلم والبحث والتخصص.
ويمكن تعريف الصحافة المتخصصة بأنها هي الصحيفة أو المجلة أو الدورية التي ترتكز أكبر قدر من اهتمامات على فرع واحد وفروع التخصصات التي يهتم بها نوع معين من القراء، حيث يكون معظم نشاطها في جمع الأخبار والتحليلات وكتابة المقالات والتحقيقات تدور حول هذا الفرع وقد يعطي هذا النوع من الصحف نسبة قليلة من اهتمامات مختلفة غير ما تخصصت فيه كأن تكون مجلة نعت بالأدب وتنكتب موضوعًا واحدًا من بين عشرات الموضوعات عن السياسة وهذا الاستثناء لا ينفي عن الصحيفة كونها متخصصة. (دندان سماح، 2017/2016، ص: 47).

الصحافة العلمية العربية.. إشكالية ومقومات:
لا تزال الصحافة العلمية Science Journalism شحيحة في عالمنا العربي رغم محاولتها مؤخرًا الانتشار والازدهار، وما هذه الشحّة إلا انعكاسًا لشحّة البحوث العلمية والدراسات المتخصصة في مجالات العلوم المختلفة، إضافة إلى ذلك شحّة الصحفيين والكتّاب المختصين في العلوم أو المتمكنين في صياغة الأبحاث العلمية على أشكال صحفية يمكن للمتلقي استيعابها بسهولة، سواء الطبية أو البيئية أو المناخية أو غيرها، وهو ما جعل الصحافة العلمية Science Journalism في الوطن العربي تعيش وفق إشكالية النمو والتطور في الصحافة العربية بجميع مجالاتها.
وبشكل عام أيضًا، فإن الاهتمام بالصحافة العلمية ما زال محدودًا، فأخبارها تقتصر على التغطية الجزئية للفعاليات واستعراض الإنجازات بشكل موسمي، مع تركيز على موضوعات (تكنولوجيا، صحة..) من دون بقية المجالات، وفي ظل غياب الأقسام والطواقم الصحفية المتخصصة، وندرة الصحفيين المتخصصين، والاعتماد في استقاء الموضوعات على وكالات الأنباء والمجلات العالمية الأجنبية، بدون مراعاة السياقات المحلية. (https://cutt.us/vrUod).
ولهذا فإن أمام الصحافة العلمية Science Journalism في الوطن العربي تحديات كبيرة لا بد على الصحفيين ومؤسسات الميديا من استيعابها والاستعداد لاحتوائها، خاصة وأن العالم اليوم وبعد انتشار جائحة كورونا وإصابة ووفاة ملايين المواطنين حول العالم بكوفيد19، بدأت الحاجة الماسة إلى صحافة علمية حقيقية لاستيعاب البحوث العلمية وبياناتها وإحصائياتها وتقديمها في صورة صحفية مناسبة لمستوى المتلقي، بهدف رفع الوعي والحد من انتشار الإشاعات والأخبار الزائفة حول المرض والاعتماد على مصادر صحيحة ومعلومات دقيقة نابعة عن خبراء ومختصين حول الموضوع.
وقد حذرت عدة وسائل إعلامية ناطقة بالعربية من مغبة انتشار الخبر العلمي المزيف عن الجائحة في تقارير متعددة خلال الأشهر الماضية، مثل تقارير “الجزيرة” و”بي بي سي” العربية و”يورو نيوز” و”روسيا اليوم”، بالإضافة إلى الصحف والمواقع المحلية. ترافق ذلك، مع جهود منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر في إبراز الخبر العلمي المتعلق بفيروس كورونا، وتوفير أقسام خاصة لهذا الخبر من مصادر موثوق بها، غير أن هذه الجهود لم تصمد كثيرا أمام قوة الأخبار المزيفة التي تفشت بشكل كبير، وأبرزها نظرية المؤامرة التي تشكك في وجود الجائحة أو تأثيرها الحقيقي، مثل فيديو الشابة المصرية “مي خريستي” الذي حصد أكثر من تسعة ملايين مشاهدة على فيسبوك في غضون أيام قليلة، قبل أن يتم حذفه بعد عدة بلاغات تتهمها بنشر معلومات مغلوطة. (هاني بشر، 2020).
ومن هذا المنطلق يتحتم على مؤسسات الصحافة العربية تكثيف المزيد من الاهتمام حول الصحافة العلمية Science Journalism وتدريب عدد من الصحفيين وتخصيصهم وبناء قدراتهم ليكونوا صحفيين علميين، ووفق هذا الإطار بدأت عدد من المبادرات العربية تنشط في هذا المجال، لتكوّن مبادرات تنحى منحى الاهتمام بالصحافة العلمية ورفع الوعي بأهميتها ومحاولة تكوين الصحفيين ضمن منظومة الصحفيين العلميين وتمكينهم بالأدوات والإمكانيات الشخصية والمعرفية الواجب امتلاكها من قبل الصحفي العلمي.
إن الصحفيين والمحررين العلميين المتخصصين في تغطية العلوم لديهم الكثير من الأمور المشتركة مع الصحفيين المهنيين على سبيل المثال، يجب عليهم فحص المعلومات وكتابتها بدقة وكذلك البحث وكتابة قصصهم باستخدام نفس الإرشادات والتقنيات التي يستخدمها الصحفيون الآخرون ويجب أن تكتب بوضوح بلغة خالية من المصطلحات يستطيع القارئ العادي أن يفهمها. (علياء رمضان، ص: 2956).
“الشبكة العربية للصحافة العلمية” هي إحدى المبادرات العربية لدعم الصحافة العلمية في الوطن العربي، وحسب تعريف الشبكة لنفسها في منشور على صفحتها على فيسبوك (https://cutt.us/lcNoM): “هي منظمة مهنية عربية إقليمية مستقلة غير حكومية وغير ربحية، تسعى للنهوض بالصحافة العلمية العربية وتطوير الواقع الإعلامي العربي، وتعود فكرة تأسيس الشبكة العربية للصحافة العلمية إلى توصية المشاركين في جلسة نقاشية بعنوان “الصحافة العلمية العربية في زمن كورونا”، التي أقامتها مؤسسة الصحافة الإنسانية بتاريخ 7 فبراير 2021، والتي شارك فيها 83 أكاديمي وباحث وصحافي، من داخل الوطن العربي وخارجه”، ويضيف المنشور: “رسالة الشبكة هي النهوض بالإعلام العلمي العربي لإحداث نهضة وتنمية شاملة في العالم العربي، وخلق وعي عربي قادر على المشاركة في التقدم العلمي والتكنولوجي ومواكبته”.
مبادرة عربية للنهوض بالصحافة العلمية في الوطن العربي ولا شك بأن هناك المزيد من المبادرات التي يمكن أن تنطلق خلال الأيام والسنوات القادمة، ويبقى الأهم من خلال هذه المبادرات هو الصحفي العربي ذاته وإمكانية تأهيله أو تعزيز دوره لحمل مسؤولية الدعم والنهوض بهذا النمط من الصحافة، حيث لا بد على ذلك الصحفي من توفير المعلومة باتباعه طرقًا علمية تواكب المعطيات البحثية لشتى العلوم، مع إسنادها لخبراء ومختصين للعلم الذي يختص للكتابة عنه.
ورغم كل ذلك تُقدِّم البيانات عن حال الصحافة العلمية العربية مؤشرات على ضعف الإصدارات الصحفية المتخصصة بالثقافة العلمية الجماهيرية، حيث لا يوجد سوى 15 مجلة علمية موجهة للجمهور تستهدف نشر الثقافة العلمية، وذلك في 22 بلدًا عربيًا، إضافة إلى بضعة دوريات في تخصصات دقيقة ومحددة تتسم بالخصوصية الشديدة ولا تناسب سوى المهتمين، ومن بين أكثر من 120 صحيفة عربية لا يزيد عدد الصحف الجادة في إصدار صفحات علمية متخصصة أو بابًا يوميًا أو اسبوعيًا في العلوم أو التقنية على 20 صحيفة عربية. (ريم أبو حصير، ص: 75).
ويقول الباحث في جامعة “مونكتون” الكندية جرفي مبارغا: “يوفّر الصحفي العلمي المعطيات العلمية للجمهور، ويشارك أيضاً في تسليط الضوء على اهتمامات جديدة وعلى الأساليب والطرق العلمية، وفي إثارة النقاشات، وتبادل الأفكار، وبالتالي يصبح شريكاً في وضع العلوم في سياقها الاجتماعي والإنساني”، ويضيف مبارغا إلى أن “دور الصحفي العلمي يشمل مراقبة الباحث من خلال عيون المجتمع وآذانه، أي أن الصحفي العلمي يثير تساؤلات المجتمع ويرفعها إلى العلمييّن المتخصصين، ويعمل على فحص المعطيات والتعليق عليها وتقويمها من دون أن ينحصر دوره في طرح الأسئلة التي يحبّها العلميّون فحسب، إذ يمكن للصحفيين العلميين أن يكتشفوا أمورا لا يراها العلميّون، بسبب اختلاف الرؤية والخلفية والسياق بين الصحفييّن ورجال العلم”، وبالتالي يتجاوز دور الصحفي العلمي – بحسب مبارغا- نقْلَ المعلومة فحسب، ليصبح مؤثّرا في السياق الاجتماعي والإنساني للعلوم والعلميّين. (ملاك مكي، 2021).
إن التفاعل الذي يجريه الصحفي العلمي مع الخبراء والمختصين ينعكس دوره على التفاعل بين الصحفي العلمي نفسه وما تتضمنه الصحافة العلمية من كتابات وبين الجمهور المتلقي، فالتبادل المعرفي بين الجانبين يمكن له أن يعزز من رفع الوعي بأهمية ودور الصحافة العلمية Science Journalism في فهم الواقع وعلومه، كما أن الاعتماد الأكبر يكون على المصادر والتأكد من صحتها ودقة معلوماتها ومنطقية تحليلها.
وحول تلك المصادر المختصة بالصحافة العلمية فقد أكد عليها مؤسس موقع “ويكليكس” جوليان أسانج. حيث أن الربط الصحفي لقول الحقيقة باسلوبها العلمي ليس بالأمر الجديد، فالجديد وعلى الرغم من أنه ليس فريدًا في الصحافة العلمية هو نيّة أسانج لتحدي فكرة الخبرة الصحفية وتحويل مركز السلطة من الصحفي “الموضوعي” إلى جعله مصدر يمكن التحقق منه. (Lisa Lynch، 2012، ص: 43).


أهمية الصحافة العلمية في الصحافة العربية:
تكمن أهمية الصحافة العلمية Science Journalism بكافة المجتمعات في نشر وتعزيز الوعي المجتمعي عن أهمية العلوم ومكانتها بين المجتمعات، كما تُظهر الصحافة العلمية دور البحوث العلمية وأهمية نشرها بين الأفراد ومشاركتها معهم، وهو الشيء الآخر الذي يجعل من المجتمع واعيًا بأساسيات بيئته وكيفية التصرف حين مواجهة واقعًا جديدًا يختلف عن واقعه الذي كان يعيشه، وهو ما تمثل في طبيعة العالم قبل وما بعد فيروس كورونا.
ويقول الفيزيائي الفرنسي ميشال كروزون (1932 – 2008) في إحدى الندوات في العاصمة الباريسية في العام 2001، إنه ينشر أبحاثه العلمية للعموم، أو يتوجّه بها إلى الجمهور العادي في محاولة منه لفهم أفضل لما يقوم به، ما يعني أن الباحث، ومن خلال مشاركة أبحاثه مع المجتمع العام من خلال آليات الإعلام العلمي، ينجح بفهم أفضل ومغاير لما يقوم به في مختبره، وينعكس ذلك على عملية إنتاج المعارف العلميّة في المؤسسات البحثية والمجتمع. (ملاك مكي، 2021).
ولذلك ومن هنا تتضح أهمية الصحافة العلمية Science Journalism ودورها في مشاركة المحتوى العلمي ونتائج البحوث المنجزة عن العلوم مع الجمهور المتلقي، وهو ما يخلق جوًا من التفاعلية الممكنة بين الطرفين، وهو ما ينعكس أيضًا بالاستفادة على الباحثين ومعرفتهم لمدى أهمية أبحاثهم وبالمقابل معرفة مدى أهمية كل بحث في الحياة الواقعية من قبل الجمهور المتلقي، ولا شك بأن هذه التفاعلية بين الطرفين تسهم بشكل أولي في تحقيق وظائف الصحافة العلمية.
ويأتي في مقدمة وظائف وأهداف الصحافة العلمية، تعزيز الوعي الجماهيري بأهمية العلم وتأثيراته الاجتماعية، ثم يأتي هدف توفير التغطية الإعلامية لمختلف الأنشطة العلمية في مختلف المجالات، بالإضافة إلى مهمة تسليط الضوء على إنجازات البحث العلمي وإبراز المبدعين والمتميزين وتعريف المجتمع على نجاحاتهم، وغير ذلك. (https://cutt.us/cGSrp).
ولو نظرنا من تلك الزاوية إلى واقع الصحافة العربية، فإن الواقع اليوم بحاجة إلى صحافة علمية Science Journalism خاصة مع انتشار الشائعات والأخبار الزائفة في الكثير من المشكلات التي تواجه المتلقي العربي، من قبيل الوبائيات والمحافظة على البيئة والتعامل مع الكائنات وانتشار الحروب وكوارث الفيضانات وغيرها من العلوم المختلفة، كما أن الصحافة العربية اليوم بحاجة إلى المزيد من تأكيد وظيفتها الرقابية على السياسيين والعلماء وغيرهم، وهذا الأمر قد تقوم به الصحافة العلمية.
وقد أكدت ذلك الباحثة سارة إيفرتس، وهي أستاذة مساعدة في جامعة كارلتون، كلية الصحافة والإعلام، وعملت كصحفية علوم لأكثر من عقد في برلين، قالت في حوار نُشر على موقع (جدليّة https://cutt.us/A4Rtg): “في بادئ الأمر، على الأقل في كندا وفي العديد من الدول الغربية والعديد من الديمقراطيات، يذهب جزء من الضرائب إلى تمويل البحوث، حيث يتقدم الباحثون والأكاديميون بطلباتهم إلى وكالات التمويل التي تمنحهم المال للقيام بالبحوث العلمية، وما الأموال التي تديرها وكالات التمويل سوى جزء من الضرائب التي دفعها الناس، هنا يكون أحد أدوار الصحفيين العلميين شرح كيفية صرف هذه الأموال وشرح النتائج التي قدمتها هذه البحوث إلى العالم، إضافة إلى ذلك، يعمل الصحفيون العلميون على مراقبة العلماء، فالعلماء مثل غيرهم من الأشخاص، مثل السياسيين ومثل رجال الأعمال، فبعض من تدفع لهم الأموال قد تكون لديهم أهداف خاصة نابعة من الجشع، لذا يجب على الصحفيين العلميين مراقبة العلماء في ممارسة العلوم، والتأكد من قيامهم بعملهم بطرق أخلاقية وقانونية”.
واتجهت الصحافة اليوم في العالم إلى دقة التخصص والتركيز على جانبٍ من الجوانب، وهو ما عزز دور الصحافة العلمية Science Journalism وأهميتها، وفي عالمنا العربي ورغم محدودية تلك التخصصات وخاصة العلمية، تحتاج الصحافة العلمية ذاتها إلى المزيد من الاهتمام، بقدر احتياج المتلقي العربي إلى من يفسر له تلك الأبحاث ونتائج العلوم في كافة المجالات بشكل سهل ومفهوم، ليستطيع من خلالها فهم المطلوب وتمكينه من التعامل مع تلك الأخبار بوعي ومسؤولية.
ولا يعد وضع الصحافة العلمية في العالم العربي استثناء من وضعها في بقية دول العالم، مع فارق الانتشار ومستويات التمويل، فالصحافة العلمية في الدول الأوروبية مثلا تعاني من مشاكل أخرى تتعلق بغلبة العنصر المعلوماتي على العنصر التحليلي، والخلط بين الترويج للقضايا الصحية الهامة والجهد المفترض في سبر أغوار علاقات السطوة المالية والنفوذ والسياسة وتأثيراتها على البحث العلمي، هذا بالإضافة إلى تغول الخبر السياسي والرياضي والفني على الخبر العلمي. (هاني بشر، 2020).
وتتجه أغلب صحافتنا في الوطن العربي إلى الجانب السياسي أكثر منه الجوانب الأخرى الاجتماعية، ناهيك عن الجوانب العلمية، وهذا الاتجاه بالطبع نظرًا لما تعيشه العديد من البلدان العربية من حالة اللا استقرار السياسي فيها، ورغم ذلك أثبتت المجتمعات العربية وخاصة بعد انتشار جائحة كورونا أنها بحاجة ماسة إلى صحافة علمية عربية، تقدم للجمهور المتلقي معلومات وإحصائيات علمية بحثية وفق مصادر خبيرة موثوقة ودقيقة، لكن يبقى التحدي الأكبر الذي يواجه الصحافة العلمية Science Journalism هو عدم وجود صحفيين علميين متخصصين ليس فقط في العالم العربي، بل في العالم بشكل عام.
وهذا التحدي أوضحته عينة مدروسة وصلت نسبتها إلى 80.8%، كانوا يرون أن أهم التحديات التي تواجه الصحافة العلمية هي عدم وجود صحفيين متخصصين ومؤهلين لاستخدام الصحافة العلمية، في حين يرى 73.7% من أفراد العينة أن مشكلة التدريب تعد أحد المعوقات الرئيسة في هذا النوع من الصحافة. (علياء رمضان، 2958).

وتحتاج الصحافة العلمية العربية تحديدًا إلى المزيد من الاهتمام وتكثيف الجهود لتسليط الضوء على هذا النمط من الصحافة، ولا شك بأن تسارع الاكتشافات والعلوم والتطور البيئي والتكنولوجي الذي يجاري الزمن اليوم لا بد له من صحافة علمية تخصصية رصينة، تعطي الجمهور المتلقي ملخّصًا بل وكذلك تقدم له توضيحًا كاملًا عن الآلية والأدوات التي توصل البحث من خلالها إلى النتائج، ليكون بذلك كامل الوعي عن تلك المشكلات، وبصيرًا بما تقدمه تلك الأبحاث من حلول ونتائج، تكشف له المزيد من الإدراك حولها وحول التعامل معها.

———————

مراجع:

  • سماح، دندان، الصحافة الرياضية جريدة الهداف نموذجا، مذكرة لنيل شهادة الماستر تخصص اتصال صحافة مكتوبة، جامعة عبدالحميد ابن باديس، كلية العلوم الاجتماعية مستغانم، 2017/22016.
  • رمضان، علياء، دور شبكات التواصل الاجتماعي في تعزيز الصحافة العلمية، مجلة البحوث الإعلامية، مجلة علمية محكمة تصدرها كلية الإعلام بجامعة الأزهر، العدد 54، الجزء الخامس، 2020.
  • أبو حصيرة، ريم، واقع الصحافة العلمية في الصحف الفلسطينية اليومية دراسة تحليلية وميدانية مقارنة، مذكرة استكمال متطلب الحصول على درجة الماجستير في الصحافة، الجامعة الإسلامية بغزة، 2018.
  • بشر، هاني، الصحافة العلمية أصدق إنباء..، موقع معهد الجزيرة للإعلام (https://cutt.us/MMCb1
    )، 10 سبتمبر، 2020.
  • مكي، ملاك، كيف نظمت الصحافة العلمية العلاقة بين العلم والعموم؟، موقع معهد الجزيرة للإعلام (https://cutt.us/GsXYH
    )، 7 فبراير، 2021.
  • Lynch، Lisa، That’s Not Leaking, It’s Pure Editorial”: Wikileaks, Scientific Journalism, and Journalistic Expertise، CJMS Special issue Fall 2012 / RCÉM numéro thématique automne 2012.

You may also like

تعليقان

اترك رداً على علمي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *